هل الترجمة علم أم فن ومهارة؟
في مقال سابق حول المفاهيم الخاطئة الأكثر شيوعًا حول الترجمة تناولنا العديد من تلك المفاهيم والصور التي يظنها البعض حول صناعة الترجمة، كتلك التي يتوهمها الوافدون الجدد على مهنة الترجمة من أن الأمر لا يتطلب سوى معرفة جيدة بلغة أجنبية وبعض المسارد اللغوية ليبدأ بعدها المرء حياته كمترجم، وهذا غير صحيح على الإطلاق.
إذا قام عدد من الناس بترجمة نص واحد إلى نفس اللغة، فإننا سوف نجد أن ترجماتهم ليست واحدة، بل ربما نجد أنهم استخدموا مفردات وعبارات مختلفة عند الترجمة، ما يعني أن الترجمة بها جانب كبير يعتمد على الإبداع، فالترجمة عمل إبداعي ولا يعتمد على القوالب الجامدة الصلبة. ولا يعني اختلاف الترجمة هنا، أن هناك ترجمة واحدة من بين هذه الترجمات صحيحة، والبقية خاطئة، ولكن عند الحكم على ذلك نجد أن هناك ترجمات ضعيفة وأخرى متوسطة وأخرى احترافية.
لذلك نجد تفاوتًا بين مستويات المترجمين أنفسهم، ما بين مترجم مبتدئ وهو الذي تعلم أسس وقواعد الترجمة، واستطاع أن يطبقها بالقدر الذي تعلمه، وغالبًا ما يقوم بذلك على نحو تقليدي، وربما حرفي بحت، مع تقيُّد تام بالنص الأصلي، وهذا النوع من المترجمين قلَّما يطلب استشارة أو مساعدة ممن هم أعلم منه من أهل الصناعة، لذا سريعًا ما يقع في الخطأ. أما المترجم متوسط الخبرة، فهو الدارس لعلم الترجمة في الجامعة مثلا ولم يطور مهاراته بالقدر الكافي الذي يُخرج نصًا احترافيًا، إلا أنه في غالب الأمر ما يستعين بأهل الخبرة ممن سبقوه. وأخيرًا المترجم المحترف الذي لديه خبرة واسعة في الترجمة وأنماطها وأساليبها وعلى دراية بالاختلافات والفروق الثقافية، ولديه قدرة على أن يطلق العنان لنفسه لاستخدام أدق الألفاظ وأكثرها ملاءمة للنص، ويتمتع بقدر كبير من البلاغة والحس اللغوي.
حين تطالع التطور الهائل الذي يحدث في تقنيات الترجمة الآلية في عصرنا الحالي، تجد أن هذا النوع من الترجمات على تطوره الضخم، ما زال يعاني من قصور شديد في إخراج نص إبداعي بأسلوب بلاغي رائق، على الرغم من محاولات استخدام أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي في الترجمة الآلية، وهذا القصور يرجع إلى أن الآلة بوجه عام مهما بلغت من تقدم تستطيع فعل أي شيء إلا أن تحاكي الخيال والإبداع البشري، الذي أنعم الله تعالى به على الإنسان.
هذا لا يعني أنني أصنف الترجمة على أنها فن خالص، وذلك لأن الفنان مثلا ليس لأحد عليه من سلطان سوى ما يمليه عليه ذوقه وخياله وإبداعه، أما المترجم فعليه أن يتحرك بإبداعه ولكن في ضوء نص معين عليه الالتزام به، وإخراج نص يحاكي النص الأصلي، ويحدث في نفس المتلقي نفس الأثر الذي أحدثه النص الأصلي فيه، وأن ينقل للقارئ روح النص بشكل سلس.
والخلاصة فإني أميل إلى القول بأن الترجمة كالطائر الذي يطير بجناحين لا غنى له عن أي منهما، وهما العلم والفن، فالترجمة ليست علمًا أكيدًا ولا فنًا خالصًا، وإنما هي حرفة وفن تطبيقي بحاجة إلى ممارسة وتدريب ممزوج بروح الإبداع، وجمال الحس البشري.