ازدهار وكساد حركة الترجمة قديمًا وحديثًا
تُعد الترجمة واحدةً من أهم الوسائل التي اتبعتها الأمم لتبادل المعارف والثقافات. عرف العرب الترجمة منذ أقدم عصورهم وحرصت الأمة العربية،منذ أن قامت دولتها،على نقل علوم من جاورها أو خالطها من الأمم وآدابهم، وقامت بصلات أدبية واقتصادية بينها وبينهم، ولم تكن للكثير من الألفاظ والمصطلحات الأعجمية معانٍ لو الترجمة والتعريب؛ مما جعلها - بلا أدنى شك - من أغنى لغات العالم بالألفاظ والمعاني.
مرت الترجمة بمراحل ازدهار وتطور وفترات كساد وركود مُذ بدأت بوادرها وحتى اليوم. فمن بين الفروق الجليّة بين الترجمة قديمًا وحديثًا، أن الترجمة في الماضي كانت مراجعة أمهات الكتب في كلتا اللغتين؛أي كان علم الترجمة في الماضي نقليًّا، ثم تطور بعد ذلك وأصبح هناك الكثير من القواميس والمعاجم، وهو ما أتاح للمترجم الرجوع إليها أنّى واجهته معانٍ صعبة.
وفي عصرنا الحالي وجدت القواميس والمعاجم "الإلكترونية"، ومن ثم أصبح سهلا على المترجم ترجمة نص باستخدام مختلف مواقع الانترنت وسهل عليه الكثير مما استشكل على من سبقوه في هذا الميدان،بالإضافة قطعًا لاختلاف أدواته في الماضي عن الحاضر.
فإن كانت لدينا لمحة عن تطور حركة الترجمة عبر الأحقاب المختلفة،فسنجد أنَّ:
- الترجمة قديمًا عاشت مراحلها البدائية منذ احتكاك العرب في عصور الجاهلية بالشعوب المحيطة بهم كالروم والفرس والسريان والأحباش والهنود.
- بدأت الترجمة من اللغات الأجنبية كالفارسية والآرامية والعبرانية إلى العربية.
- مع اتساع رقعة الدولة في عصر الدولة الأموية والعباسية،ازدادت حصيلة الترجمة والدواوين.
- أدى اتصال العرب المباشر بغيرهم من الشعوب المجاورة لازدياد الحاجة إلى الترجمة، فقام العرب بترجمة علوم اليونان،وبعض الأعمال الأدبية الفارسية.
وقد نلحظ حتى هذه الحقبة ازدهارًا ملحوظًا ونشاطًا لحركة الترجمة في تلك الحقبة وحرصًا بالغًا على جودة الترجمة،مما أدّى بدوره لنهضة علمية وحضارية - لا يُنكرها أي لبيبٍ ومُنصف- للعرب آنذاك.
لكن مع الأسف الشديد في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وتحت تأثير المطامع الخبيثة في خيرات أوطاننا العربية، توقفت حركة الترجمة وتشتَّت مع الحروب الصليبية وحملات المغول والتتار. وكانت محصّلة تلك الحروب خراب الأرض والسكن ومنشآت العلم. فانتشرت الأمية وعمَّ الجهل.
وبعد كساد وركود حدثت صحوة أخرى في العصر الحديث إبان الحملة الفرنسية على مصر، وعادت الحركة تزدهر من جديد، فقد أثرت بعثات محمد علي الفكر والحضارة بمجهودات "رفاعة رافع الطهطاوي" في الترجمة من مختلف العلوم.
وبشكل عام لحركة الترجمة في العصر الحديث أثرٌ لا يُنكر في رفع المستوى العلمي والثقافي للجيل الحاضر. ولكن هنالك تفاوتًا كبيرًا بدرجة اهتمام البلدان العربية بهذه الحركة عمَّا كان قديمًا، وبصورة عامة أقل مما هي عليه في بلدان العالم المتقدم. وبالرجوع للإحصاءات نجد أن نسبة كتب العلوم الأساسية والتطبيقية المترجمة بالعالم العربي قليلة جدًا مُقارنةً بما يُترجم من كتب أدبية واجتماعية. ومما لا شك فيه أن انخفاض نسبة الكتب العلمية المترجمة يعود إلى أن جميع الأقطار العربية،باستثناء القطر العربي السوري،لم تقم بتعريب التعليم الجامعي.
إن حركة الترجمة لم تبلغ النضج والاكتمال من ناحية سلامة اللغة، ومطابقة الكتاب المترجم للأصل من ناحية أداء المعنى بدقة، ولكن لما أنشئت مؤسسات حكومية تشرف على انتقاء الكتب الأجنبية لترجمتها، وتم اختيار أشخاص أكفاء للنهوض بها، وأُعيد النظر فيما يترجم لإصلاحه ورفع مستوى جودته، بدأت تظهر كتب مترجمة إلى اللغة العربية ترجمةً احترافيةً بصورةٍ جيدةٍ، مُلخصةً أهداف الترجمة في الوطن العربي في التأكيد على وحدة اللغة العربية، وقدرتها على التعبير عن حاجات العصر، وإدخال هذه اللغة في قائمة اللغات العالمية المعتمدة دوليًّا.